هل تتشكّل كانتونات قضائية تقود إلى حرب أهلية؟
تتدرّج كلّ مؤسسات الدولة اللّبنانية في الانخراط بالفوضى الناشئة عن الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتزايدة في البلد. بما أنّ اللّعبة السياسية خاضعة في لبنان إلى المعايير الطائفية، تعاظمت الخشية على المؤسستين العسكرية والقضائية. لكنّ الجيش اللّبناني نجح حتى الآن بتحييد نفسه عن النزاعات السياسية، بفضل حكمة قائده العماد جوزيف عون الذي يتعاطى بحكمة عالية في مقاربة الملفات، ويمنع أي تداعيات سياسية من الوصول إلى المؤسسة العسكرية.
كان القضاء يحاول أن يُبعد الأزمات عن جسمه، لكنها وصلت إلى بعض دوائره وقرارته واتهاماته. هل يتحمّل القضاء نفسه مسؤولية إقتحام المصالح السياسية قصور العدل؟ أم أنّ النظام الطائفي هو الذي يمنع القضاء من فرض العدل؟
كانت تُثار الأسئلة القضائية منذ ما قبل ادّعاءات القاضي فادي صوّان في ملف تفجير مرفأ بيروت. تراكمت الهواجس بشأن تأثير القوى السياسية على مسار عمل قضاة، لكنّها بقيت مضبوطة في الفترة الماضية، إلى أن جاء تعطيل التشكيلات القضائية الأخيرة. قيل يومها أنّ تجميد ملف التشكيلات في أدراج رئاسة الجمهورية جاء بشكل رئيسي لأنّ التشكيلات التي أقرّها مجلس القضاء الأعلى أبعدت النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضي غادة عون عن مركزها الحالي. كأنّ المطلوب أن تبقى في موقعها لأسباب تتضح الآن.
ما بين اعتراض وامتعاض لم يسبق أن شهدت “العدلية” في تاريخها شبيهًا لهما، بقيت التشكيلات مجمّدة، وثبتت القاضية عون في جبل لبنان: فهل كان الهدف تنفيذ أجندة سياسية توظّف في مهمة تصفية الحسابات؟ تتّهم قوى سياسية بعض القضاة بأنّهم ينفّذون تلك الأجندة. تشير القوى ذاتها إلى ما حصل في ملف “الفيول”، بعد قيام حملة إعلامية أوصلت لبنان إلى محاولة ضرب مصداقية وفعالية شركة “سوناتراك” التي تزوّد لبنان بالفيول. تبيّن بعدها أنّ هناك خططًا لإبعاد تلك الشركة الجزائرية واستقدام شركات أخرى ضمن صفقة مخفية: من نفّذ الحملة؟ من أقحم القضاء؟ من سعى لعقد صفقات جديدة تكلّف لبنان مزيدًا من الأموال؟ كانت الشركة الجزائرية تتعاطف مع اللّبنانيين، وتصبر طويلًا عليهم لتحصيل أموالها. فلماذا تم التخطيط لإبعادها عبر حملات إعلامية وادّعاءات قضائية؟ تلك المعطيات تعزّز من فرضية أنّه تمّ إقحام القضاء بمصالح قوى سياسية.
إذا صار القضاة جزءًا من فريق سياسي، ونفّذوا أجندة وتعليمات، فإنّ الخطر يطال لبنان في كلّ اتجاهاته. لماذا يُطلق سياسيون على القاضية غادة عون بأنّها “قاضية الجمهورية”؟ قد يكون السبب هو تمدّد ادعاءاتها إلى مساحات أوسع من دائرتها القضائية. فما هو سبب التوسّع؟ واستحضار ملفات من بعيد؟ هل هو جزء من الأجندة السياسية لتصفية الحسابات؟
تلك أسئلة خطيرة يتبرّع أحيانًا لبنانيون بإجابات أخطر عليها(…)، معزّزة بسؤال إضافي: أين مدّعي عام التمييز ممّا يجري في الجسم القضائي؟ قد لا يتحمّل هو مسؤولية تمدّد السياسة إلى الجسم القضائي بعناوين مشروعة: ادّعاءات وإخبارات زاد من تداعياتها قانون الإثراء غير المشروع الذي أعطى الصلاحيات للنيابات العامة وقضاة التحقيق في المناطق بمعزل عن النيابة العامة التمييزية.
اذا تمّ سؤال مجلس القضاء الأعلى: ماذا يحصل الآن في العدلية؟ سيبدأ جوابهم: جمّدوا تشكيلاتنا القضائية فمنعوا تنفيذ برنامجنا الإصلاحي في القضاء. لا حيلة لنا طالما أنّ السياسة هي من يكبّل القضاء.
لذا، أتى ادّعاء القاضي صوّان على رئيس حكومة وثلاثة وزراء في ملف المرفأ يحمل في خفاياه أسئلة واتهامات باتت علنيّة: هل هناك أيضًا تصفية حسابات سياسية؟ لماذا الاستنسابية في الإدعاء؟.
فلنفترض أنّ اتهام “الوطني الحر” بأنّه يسعى إلى محاصرة القوى السياسية تحت عنوان “محاربة الفساد” هو اتهام صحيح، ماذا لو أقامت القوى السياسية الأخرى ادّعاءات على رئيس التيار النائب جبران باسيل ومقرّبين منه: بدأت تطل الاخبارات. عندها سيتحوّل القضاء إلى جبهات في كانتونات، ويأخذ البلد إلى حرب أهلية.
لذا، المطلوب من القضاء أن يحذو حذو المؤسّسة العسكرية كي يبقى الضمانة في البلد، وإلاّ يتحوّل إلى وجهات نظر. هذا ما يتخوّف منه قضاة مستقلّون شرفاء حريصون على القضاء بقدر حرصهم على البلد. لا ينقصنا مزيدٌ من الأزمات والانكسارات. تعب اللّبنانيون جدًا.
عباس ضاهر